قصيدة
" فكّر بغيرك"
في شعر محمود درويش (دراسة دلاليّة) The poem “Think of
Others” in the poetry of Mahmoud Darwish
(semantic study) اسم
الباحث الأول:
اسم
الباحث الثاني (إن وجد): اسم
الباحث الثالث (إن وجد): أ.حلى
بلال السكافي Hala
Bilal Al-Sakafi 1 اسم الجامعة والبلد (للأول) 2 اسم الجامعة والبلد (للثاني) 3 اسم الجامعة والبلد (للثالث) * البريد
الالكتروني للباحث المرسل: E-mail address: قسم اللغة العربية-
كلية الآداب –الجامعة الهاشميّة-الأردن Department of Arabic Language
- Faculty of Arts - The Hashemite University - Jordan Halaalskafy1998@gmail.com
جسم البحث:
المُقدّمة :
مرّ الشعر العربي بمراحل تطوريّة مهمة من ناحيتي الشكل والمضمون في مواكبته
للتغيرات، فيشير هذا إلى أنّ خصائص الشعر ليست ثابتة، بل متغيّرة تبعًا لتغيّر
مظاهر الحياة بمجالاتها المختلفة (الاجتماعيّة، والسياسيّة، والاقتصاديّة،
والثقافيّة) فكان هذا التغيّر جليًّا على مستوى الشكل، إذ تغيّر شكل القصيدة من
الشكل الكلاسيكي القائم على الوزن التحليلي وهو ما يُسمّى بالشعر العمودي إلى
الشكل الجديد القائم على السطر الشعري أو ما يُسمّى شعر التفعيلة أو الشعر الحرّ.
أمّا عن التغيير الذي مسّ المضمون، فيُلحظ أن الشاعر العربي المعاصر لايتعدّى إلى القضايا الموضوعيّة، وإنما يكتفي بالحديث عن
القضايا الذاتيّة إضافةً إلى قضايا تخصّ الوطن ( سياسيّة ، واجتماعيّة ، وثقافيّة
، وغيرها ). وفي هذا كلّه لم يكن الشعر العربي المعاصر خاليًا من الموضوع
الفلسطيني وخصوصًا الشعر المقاوِم، وكان الدافعَ الرئيس لدى شعراء المقاومة في
إبداعهم في الشعر تلك المأساة التي تعيشها فلسطين، والمعاناة التي يعيشها أهلها في
سقوطهم في رحاب الحرّية والكرامة، لذا كان هذا دافعًا قويًّا لدى الباحثة لتناول
شاعرًا من أبرز الشعراء الفلسطينيين ألا وهو الشاعر محمود درويش الذي ظهر في
السبعينيات، وقد تفرّد وتميّز في كتابة شعر الرفض والمقاومة للاحتلال الصهيوني ،
وكانت قد اعتمدت الباحثة المنهج الأسلوبي باعتباره المنطلق والأساس الذي بُني عليه
موضوع الدراسة، فاختارت قصيدة " فكّر بغيرك " لمحمود درويش ، وسعت إلى
مقاربتها أسلوبيًّا، للوقوف على خبایاها النفسیة واستكناه أبعادها الأسلوبيّة والجماليّة.
وبيّنت الباحثة العوامل التي وجّهتها إلى دراسة هذه القصيدة دراسة أسلوبية
موجزة ذلك بعدة نقاط :
أ. الرغبة في الإسهام بدراسة
موضوعية لإحدى قصائد " محمود درويش" الذي كرّس حياته وقلمه لوطنه.
ب. الرغبة في استنطاق قصيدة " فكّر
بغيرك" أسلوبيًا( بدراسة دلالية)، وذلك بوساطة
الانتفاع بالمادة التراثيّة والمناهج اللغويّة المعاصرة.
ج.
بيان دور مستويات التحليل الأسلوبي عن كشف جماليات التعبير الشعري عند درويش من
خلال القصيدة المُختارة واكتشاف سر إمكانات الشاعر الفنيّة فيها.
د.
إنّ دراسة الشعر وَفْق المنهج الأسلوبي تسمح بالتعرّف على النصّ من الداخل وليس من
الخارج، فتكون القصيدة هي المتحدّث الوحيد عن عالمها وما تحمله من خصائص أسلوبيّة.
ويدور سؤال البحث الرئيس في الخصائص الأسلوبيّة للغة عند درويش مراحىً للإبداع ؟ وكيف تجلّت الخصائص الأسلوبيّة عبر مستويات النصّ ؟ وعلى إثر هذا اقتضت طبيعة البحث أن يقسّم إلى
تمهيد وثلاثة مطالب، فجاء التمهيد متضمنًا الحديث عن الأدب العربي في فلسطين،
خاصّة الشعر الفلسطيني المعاصر، والاهتمام بدراسة هذا الشعر وخصوصًا إذا كان
يتعلّق بشاعر كمحمود درويش، والحديث عن الأسلوبيّة وبيان أهمّ الدراسات السابقة
التي تناولت الأسلوبيّة بمستوياتها واعتمدتها الباحثة في بحثها.
أمّا المطلب الأوّل فاشتمل على التعريف بالشاعر الفلسطيني محمود درويش وبديوانه : " كزهر اللوز أو أبعد " .
أمّا المطلب الثاني فكان للحديث عن الأسلوبيّة، وفيه عرّفتْ الباحثة
الأسلوبية لغةً واصطلاحًا ، ووضّحت مفهوم المستوى
الدلالي في التحليل الأسلوبي الخاصّ بالبحث.
أمّا المطلب الثالث فهو جوهر البحث لدراسة القصيدة دراسة أسلوبيّة،
بمستواها الدلالي وهنا تناولت الباحثة دلالات العنوان، والقصيدة، والحقول
الدلالية، والرموز والصور الشعريّة، والتكرار وغيرها، و بيّنت وظيفة كلٍّ منها في القصيدة ، وكيف أسهمت في أداء المعنى. وانتهى البحث بخاتمة
شملت أهمّ النتائج التي توصّلت إليها الباحثة في مطالب بحثها ومحتوياته.
التمهيد:
إنَّ الأدبَ االفلسطيني جزء لا يتجزّأ من الأدب
العربي الحديث، وله مزايا تميّز بها منذ عقد الخمسينيات في علاقته بالمكان
والزمان، وانشغاله بالقضية السياسيّة السائدة للفلسطينيين الذين كُتِب عليهم أن
يقضوا حياتهم إما منفيين في بلادٍ أخرى ، أو مواطنين من الدرجة الثانية في إسرائيل في حالة بقائهم
في أرض أجدادهم، أو فاقدين لصفة المواطنة عندما كانوا يعيشون تحت الاحتلال العسكري
الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية. وهذا الواقع لا يفلت من قبضته أي فلسطيني أو أي
كاتب يعيش التجربة الفلسطينيّة، لأنّ أحداث التاريخ المعاصر قَدَر أليم قبل لحظة الميلاد، وهذا يسوقنا للحديث عن الشعر الفلسطيني الذي له مكانة
مرموقة في مسيرة الشعر العربي المعاصر، وخصوصًا عند شعراء المقاومة الذين برزت
عندهم عوامل الإبداع بسبب المأساة التي تعيشها فلسطين، ووقع الاختيار في هذا البحث
على الشاعر محمود درويش الذي عاش هذه المآسي إباء النكبة الفلسطينيّة التي حملت في
طيّاتها رؤية مأساويّة، وأخرى بطوليّة لمواقف المقاومة والأمل والإيمان بانتصار
العدالة في النهاية.
ولمّا كانت قصيدة " فكّر بغيرك " قصيدة يمكن دراستها أسلوبيًا من
خلال المستوى الدلالي، كون الأسلوبيّة كما عرّفها روني ويلك : " الأسلوبيّة
والشعريّة هما على نحوٍ تامّ فرعٌ متميّز من المعرفة، يهدف إلى الملاحظة والتطبيق
والتشخيص سواء في الأسلوب اللفظي أو في الأدلّة اللفظية المستخدمة في الأدب "
( [1] ) ،
فدرست الباحثة الرموز والدلالات عند محمود درويش، لأن الدلالة من أهم فروع علم
اللغة الحديث، كونها تبحث عن المعنى الذي هو غاية كل الفروع، حيث يكمن هدفها
الأساس في تبيين المعنى وإظهاره على نسق واضح سهل الفَهْم، ومن هنا وُسِمَ عنوان
البحث بقصيدة " فكّر بغيرك" في شعر محمود درويش دراسة دلاليّة.
واعتمدت الباحثة في هذا البحث على كتب أهمها : ديوان محمود درويش
"كزهر اللوز أو أبعد " ، وكتاب شفيع السيّد" الاتجاه الإنساني في
الشعر العربي المُعاصر"، وكتاب هاني
الخير " محمود درويش ، رحلة عمر في دروب الشعر" وكتاب إبراهيم الرمّاني " مدخل إلى
الأسلوبية "، وكتاب يوسف أبو العدوس " الأسلوبيّة الرؤية والتطبيق
" ، وكتاب بيار جيرو " علم الدلالة " ، وكتاب إبراهيم أنيس "
دلالة الألفاظ ".
واعتمدت على بعض الدراسات التي أفادتها في البحث ، وكان منها الآتي:
1. دراسة محمد العيد آل خليفة : دراسة
أسلوبيّة لقصيدة " جمال الريف "، مذكرة مقدّمة لنيل شهادة الليسانيس في اللغة والأدب العربي، 2013 .
من
أهداف هذه الدراسة :
أ.
دراسة الخصائص الاسلوبيّة في شعرية محمد العيد.
ب.
كشف أسرار الأسلوب الذي يكشف عن النواحي الجماليّة للنصوص الأدبيّة، فاحتفت
الدراسة بالعناصر اللغوية تركيبًا ودلالة وإيقاعًا.
من
نتائج الدراسة :
أ.
توصلت إلى أهمية الدراسة الأسلوبية باعتبارها دراسة حديثة وموضوعيّة.
ب.
كانت السمة الغالبة في القصيدة هي العذوبة المتولّدة عن صفاء اللغة وتلقائية
العبارات والصور، بملكية الشاعر ناصية اللغة من حيث المعجم والأساليب.
2.
دراسة صلاح عبد الصبور : دراسة أسلوبيّة لقصيدة " أغنية الشتاء " ،
مذكرة تخرج لنيل شهادة الليسانيس في اللغة والأدب
العربي، 2017/2018م.
هدف
الدراسة تمثّل في :
أ.
تباين مختلف المستويات اللغوية والكشف عن العلاقات المختلفة في هذه
المستويات.
أما عن نتائجها فكان منها :
أ.
الأسلوبية أسلوبيات فهي متعددة الاتجاهات.
ب.
تعدّ الأسلوبيّة تطوّرًا للدراسات اللغوية التي جاء بها " دي سوسير ".
المطلب الأوّل: التعريف بالشاعر "محمود
درويش" وبديوانه: " كزهر
اللوز أو أبعد".
هو شاعر فلسطيني ولد في( 13 /3/ 1941 م) في
قرية "البروة" شرق "عكا"، وهي من بين المدن التي سواها
الإسرائيليون بعد حرب عام (1948) ، وعنها يقول محمود درويش : " أذكر نفسي عندما
كان عمري ستة سنوات ، كنت أقيم في قرية جميلة وهادئة هي قرية " البروة "
الواقعة على الهضبة الخضراء ينبسط أمامها " عكا" وكنتُ ابنًا لأسرة
متوسّطة الحال عاشت من الزراعة([2]).
تأثرت قريته بالمأساة الفلسطينية تأثرًا
مباشرًا ، إذ هدمها اليهود و غيّروا اسمها إلى" أحيهود"
، وقعت هذه الأحداث والشاعر صغير السن سنة (1948) فراح يغدو في الغابات تحت دوي
الرصاص و القذائف ، ويتنقل من مكان إلى أخر مع أحد أقاربه حتى وصل إلى لبنان ،
أقام لمدّة سنة في لبنان ثم عاد جلسة مع عمه إلى فلسطين حيث أقام في قرية " دير الأسد
" ، وتعلّم في مدرستها ثم انتقل إلى ثانوية كفر ياسين ، أتمّ دروسه الثانوية
وانصرف بعد ذلك إلى العمل و كتابة الشعر .
هذا وقد تعلم
محمود درويش الإنجليزية و العبرية والتزم في شعره بقضية وطنه ودخل سجون إسرائيل
عدة مرات. عمل في عدة صحف عربية ، وفي عام( 1980 م)
استطاع أن يحصل على منحة دراسية في موسكو، وبعد إتمام دراسته ، لم يعد إلى فلسطين
، وإنما أخذ ينتقل بين العواصم العربية( [3]
).
كان له الكثير من الآثار الشعرية التي
انتشرت في مختلف دول العالم، وساهمت دواوينه في إضافات عديدة للأدب العربي يشكل
عام، والأدب المعاصر بشكل خاص، فكانت منهلًا للدارسين في الأدب، وكلمة يستطاب
غناؤها لدى الفنانين، وكان من دواوينه الشعريّة : " عصافير بلا أجنحة "
(1960م) ، " أوراق الزيتون " (1964م)،... " جداريّة "(2000م)،
" حالة حصار"(2002م)، " لا تعتذر عمّا فعلت"(2004م)، "
كزهر اللوز أو أبعد "(2005م)، وهذا الأخير هو الذي يتضمن أربع وثلاثين قصيدة
متنوّعة بين قضايا الإنسان، وحب الوطن إلى ألم الغُربة والمنفى وقد خصّص جزءًا منه لصديقه الراحل إدوارد سعيد،
و كان أبرز ما حمله في قصائده قضية شعبه عبر الإبداع المتجدد والتحليق في عالم
واسع ممتد الأفق ليجعل من التجربة الفلسطينيّة تجربة الإنسان المعذّب المضطهد الذي
يرفض أن يرضخ لمصيره بل يناضل باسلًا معاندًا رغم جراحه النازفة ( [4] )،
وإحدى هذه القصائد قصيدة " فكّر
بغيرك " _ موضوع هذا البحث_ وفيها يقدّم رؤيته أو التماسه للمخاطب، الذي قد
يكون هو المتكلّم نفسه، أو قارئه، أو الاثنين، لإنقاذ كل ما يمكن أن يهب الحياة
فرص جمال وانبعاث للحياة بعد الموت فوق الأرض المحتلّة، وللربيع بعد الخريف،
وللتحرير بعد الاحتلال.
توفي محمود درويش يوم السبت(9 /8/ 2008م
) بعد إجرائه لعملية القلب في الولايات المتحدة الأمريكية عن عمر يناهز( 67 ) سنة ، شارك في جنازته آلاف من أبناء الشعب الفلسطيني والعربي
والعالمي.
المطلب الثاني: مفهوم الأسلوبية ومستوياتها.
أ. مفهوم الأسلوبيّة:
لغةً : استعملت كلمة الأسلوب قديمًا للدلالة على نسق مستقيم على هيئة سطر تزرع
فيه أشجار النخيل ([5] )
اصطلاحًا: هو علم
يكشف عن القيم الجمالية في الأعمال الأدبية منطلقًا من تحليل الظواهر اللغويـة
والبلاغية للنص( [6] ).
وكان لا بدّ من التمييز بين الأسلوبيّة
والأسلوب الذي عُرِّفَ بأنه طريقة الكتابة أو الإنشاء أو طريقة اختيار الألفاظ وتأليفها،
للتعبير بها عن المعـاني قصـد الإيضاح والتأثير، فتوضّح الفرق بينهما حينما
تميّز أنّ الأسلوب طريقة في التعبير، أمّا الأسلوبية فعدّت منهجًا في
قراءة النصوص، كونها نشأت مستندة إلى نشأة علم اللغة الحديث، لذا فهي عند بعض
الباحثين تعدّ فرعًا من فروع علم اللغة توافقًا مع نظرتهم إليها بأنها منهجٌ
مستوحى من المناهج اللغوية، وكان منهم ( ريفارتير) الذي
عرّف الأسلوبيّة على أنها منهج لغوي، وأكّد صلتها الوثيقة بالدراسة اللغوية وربط
بين منهجها ومنهج البحث اللغوي عمومًا، وكان هذا الربط بين الأسلوبيّة والدراسة
اللغوية يقود بالحديث عن الفرضية الأساسية للعلم نفسه، تلك التي تقوم على أساس أن
النص الأدبي نص لغوي،لا يمكن سبر أغواره دون تحليل
العلاقات اللغويّة التي ينطوي عليها، ذلك لأن هذا التحليل هو الذي يقود إلى تفهّم
الشحنة الدلاليّة والعاطفيّة الكامنة في النصّ، والتي تؤثّر في المتلقّين( [7] ).
ويعدّها أيضًا بأنها علمٌ يدرس الأسس الموضوعية لعلم الأسلوب بهدف الكشف عن
العناصر المميّزة، التي يمكن بها مراقبة حرية الإدراك لدى القارئ المستقبل . ويتلخّص تعريف الأسلوبية بأنها :
" دراسة العناصر المؤثّرة في اللغة
" ( [8] ).
وهذه التعريفات لا تختلف عن بعضها البعض إلا أن الأمر اللافت للانتباه هو ربط
الأسلوبية بالشعرية وعدّهما فرعًا من المعرفة كما ظهر عند روني ويلك في تعريفه
للأسلوبية كما ذُكر في التمهيد سابقًا، وخلاصة القول: إن الأسلوبية ستظل تبحث عن
التميّز في النص أو ما يحقق فنّيته أو تأثيره الذي يحقق به الأديب الأغراض
الجمالية، فوظيفتها الكشف عن السمات المائزة للكلام
عامّة وللفنون الإبداعية خاصّة.
_
المستوى الدلالي في التحليل الأسلوبي:
يعتمد الباحث الأسلوبيّ في تحليله للنصوص
الأدبية على مستويات مختلفة يحددها المنهج الأسلوبي، وهذا البحث بطبيعته اقتضى أن
تعتمد الباحثة مستوىً واحد، وهو: المستوى الدلالي، وفيما يأتي ستعرّف الباحثة به:
أ. المستوى الدلالي:
وفي هذا المستوى يتناول المحلّل الأسلوبي استخدام المنشئ للألفاظ وما فيها من خواصّ تؤثّر في الأسلوب، كتصنيفها
إلى حقول دلاليّة، ودراسة هذه التصنيفات ومعرفة أي نوع من الألفاظ هو الغالب،
ويدرس أيضًا طبيعة هذه الألفاظ، وما تمثّله من انزياحات
في المعنى، فهل في النص ألفاظ غريبة؟ أو ألفاظ مألوفة دارجة؟ وهل هذه الألفاظ وضعت
في سياق مغاير، بحيث تكتسب دلالات جديدة ؟ ، ويعدّ هذا المستوى من أهم مستويات
التحليل اللغوي للنص الأدبي، حيث الدلالة كانت محلّ اهتمام اللغويين منذ القدم ،
سواء أكان ذلك عند العرب أم الأجانب. فيرد عند الفارابي مثلًا تعريف الدلالة هي ما
يهتمّ بالألفاظ ، ووضع لها علم خاص وهو علم الألفاظ، والتي قسمها إلى سبعة وهي :
" علم الألفاظ المفردة ، وقوانين الألفاظ عندما تركّب وقوانين تصحيح الكتابة،
وقوانين تصحيح القراءة، وقوانين الشعر" ( [9])
وهذا يقارب المفاهيم التي جاء بها دي سوسير أي دراسة العلاقة التي تجمع بين الدالّ
والمدلول، فأضحى هذا العلم يهتم بالصورة المفهوميّة، أي أنه يهتم بجوهر الكلمات
ومضامينها" فإن الدلاليات تدرس المعاني التي يمكن
أن يعبّر عنها من خلال البنى الصوتيّة والتركيبيّة" ([10] ) .
المطلب الثالث: قراءة القصيدة عبر الحقول الدلاليّة
من خلال الألفاظ الدالّة على كل حقل.
إنَّ الشاعر محمود درويش ذو تجربة طويله
وعميقة عاش الحالة الفلسطينيّة ومآسيها و تأثر بها ووصفها في أشعاره و عبّر
عنها من خلال نفسه ، فالوطن والأرض هما ما عُني بهما الشاعر كثيرًا ، "ذلك
أن تكوين الشخصية الفلسطينية المقاومة لا يمكن أن يبتعد عن معنى و ملامح و امتداد
الأرض في كل جزء من التكوين الإنساني …. فالأرض هي الفلسطيني ،
و الفلسطيني هو الأرض و الملمح ظاهر بوضوح أمام كل عين " .( [11] )
و في قصيدته "فكر
بغيرك " لم يكن يتحدث إلا عن قضية هذه الأرض ومعاناتها
محاولًا تصويرها و نقلها إلى كل إنسان و كل مسؤول كأنه ينقلها من خلال قناته
الخاصة حتى يرى العالم هذه المعاناة من التشرد و القتل و السلب و الانتهاكات
الإنسانية كافة على أرض الأقصى ، فهذه قضية إنسانية و دينية لا بد أن تفيق إنسانية
العالم من أجلها . و قد أظهر الطبيعة المقاومة في كثير
من قصائده ذلك لأن الأرض قضيته الأولى فهي " على الدوام قوية الملامح شديدة الحضور رائعة النبض والتوهج".(
[12] )
يدعو الشاعر في بداية القصيدة إلى إحداث مقارنة
بين حالين هما حال الشعب الفلسطيني المقهور و حال الإنسان الآخر المنعم ، وفي هذه
المقارنة يظهر مدى معاناة الشعب الفلسطيني في أبسط أمور الحياة من الحصول على
الماء و الطعام والمسكن و الوطن و الأمن ، كأنه يطلب من كل إنسان أن يتتبع يومه
منذ بدايته ويضع نفسه مكان هذا الشعب و يقارن و يلاحظ تلك الفجوة الكبيرة .
فيطلب من كل
إنسان أن يستيقظ
صباحًا بأمان ليعدّ طعام الفطور أن يتذكر كل فلسطيني مشرد لا يجد ما يأكل و يستيقظ
على أصوات إطلاق النار والحرب، ويطلب من كل من يذهب لدفع فاتورة الماء أن يتذكر
معاناة ذلك الشعب الذي لاتتوفر لديه تحت ظروف الحرب
أبسط احتياجات الحياة ، فلا بيت لهم ولا وطن ولايجدون
مكانًا للنوم أو الراحة أو الأمان لهم و لأطفالهم و كبارهم بسبب التهجير والتشرد،
وهم لا يملكون حتى حق المطالبة بحقوقهم أو التحدث عن قضاياهم ، كل هذه المقارنات
لا بد أن تجذب المتلقي و تؤثر في قلبه ووجدانه و توقظ إنسانيته ليكون في النهاية
داعمًا لهذه القضية و قائما بدوره و مساندا لهم بكل وسيلة متاحة .
و قد درست
الباحثة هذه القصيدة دراسة أسلوبية ، إذ تناولت المستوى
الدلالي من خلال حديثها عن دلالة العنوان و الحقول الدلالية و الصور الشعرية إضافة
إلى دلالة التكرار مبينة الظواهر الأسلوبية و دورها في خدمة المعنى العام القصيدة
.
®
المستوى الدلالي:
v سيمياء العنوان
:
يعد ّالعنوان أول عتبة سيميائية ومثير أسلوبي في
النص ، إذ يحتوي على دلالات مكثفة تمثل مفتاحه و تمهد للدخول إلى عوالمه ، كما
يخلق نوعًا من الإيحائية، فهو مدخل دلالي " إلى معمار النص ، و إضاءة بارعة و
غامضة لأبهائه و ممراته المتشابكة "( [13])
، فالعلاقة بين العنوان و النص علاقة متصلة فهو جزء منه ، ولا تدرك إشاراته إلا من
خلال العلاقة بينهما .
إنّ
الشاعر محمود درويش هو شاعر الثورة الفلسطينية الذي كرّس شعره لخدمة قضاياها ، و
يتضح ذلك من خلال قصائده و إن اختلفت طرق التعبير أو المتطلبات ، ففي قصيدة
"فكر بغيرك " يدعو دعوة يقصد بها محاولة إحياء الإنسانية المفقودة في
النفوس و القلوب و الأقلام و الأفعال ، مستخدمًا أساليب أسلوبية كثيفة لمحاولة
إحداث التأثير القوي و الدعوة إلى تلك الإنسانية .
" فكر بغيرك " عنوان فريد ذو إيحائية قويّة ، كأنّه يلمح
إلى إقرار التفكير بالنفس حتى يطلب التفكير بالغير في مقابلة تعبر عن ثنائية النفس
و الغير، تلك الثنائية التي يدعو فيها إلى تحويل الكثافة القوية في معاني التفكير
بالنفس إلى التفكير بالغير، و لو للحظة أو لحظات في تلك المهام العادية التي يقوم
بها الإنسان الذي لايعيش أحداث فلسطين و مرارها ، فهو
في هذا العنوان ممن خلال الأسلوب الإنشائي القوي من خلال فعل الأمر ، يطلب أمرًا
غير مألوف للفئة الأنانية المخاطبة فكأنه يخاطب بقوة وجدانهم القاسي في محاولة
التأثير عليهم وتحريك ضمائرهم و إنسانيتهم.
فعل الأمر ( فكِّر ) على صيغة (فعِّل)
التي تفيد الكثرة و المبالغة ، فالصيغة في بنية الفعل، و الأسلوب الإنشائي، إضافة
إلى التعدية بحرف الجر وإضافة كاف المخاطب ، دلالات مكثفة في المعنى ، وقد قرن
ضمير المخاطب مع كلمة غيرك في محاولة للجمع بينهما و إبقاء المخاطب متصلًا بهذه
القضية بوجدانه و قلبه، وليس عقله الذي يدور غالبًا حول مصالحه ، فيطلب منه الشاعر
أن يضع نفسه المنعّمة مكان غيره الذي يعاني في أبسط متطلبات الحياة، إن التفكير
دعوة إلى بني البشر وليس لفئة بعينه، إنها طلب من الأحرار أن يعيشوا الهم الإنساني
وعدم الانكفاء على الذات والتحوصل في القضايا الخاصة والذاتية، فبهذا أدى العنوان
إحالة مرجعية لما ينطوي عليه النص الشعري من محمولات أسلوبية ودلالية.
v الحقول الدلالية :
إنّ الألفاظَ عناصر أساسية يتكوّن منها الكلام و الشعر بشكل عام، فاختيار
الألفاظ عملٌ مهم تعتمد عليه ذاتيّة الشاعر و نزعته الفكرية ، فمن خلال المفردات
تتجلى قدرة الشاعر ودقّته في التعبير عن وجدانه و عواطفه و أفكاره ، فهو يمزج تلك
العواطف مع واقعه لينتج عن ذلك تجربته الشعورية التي يعبّر عنها من خلال شعره .
" إن لأي نص معجمه الأدبي الخاص به ، و نقصد بالمعجم ألفاظ اللغة الداخلة
في عملية تركيب الكلام " ( [14] ) ،
و يعبر عن هذا المعجم من خلال الحقول الدلالية ، وهي " مجموعة من الكلمات
التي ترتبط دلالتها ضمن مفهوم محدد " ( [15]
)، وتدرس هذه الحقول العلاقة بين هذه الكلمات ضمن حقل معين في دلالة عامة متأثرة
بتنوع دلالات تلك الألفاظ .
وقصيدة " فكر بغيرك " قصيدة مليئة بالثنائيات التي تعبر عن حالين
مختلفين هما حال الشعب الفلسطيني و حال الإنسان المنعم الذي لا يعنيه غير همه
الخاص ، فقد عبّر عن ثنائيات الشبع و الجوع و الحرب و السلام و الارتواء والعطش
والوطن و التشرد و حرية التعبير و تكميم الأفواه و التفكير بالنفس و التفكير
بالغير، كل هذه الثنائيات تشكل قيمة أسلوبية فريدة لمحاولة إحياء الإنسانية و
الدعوة إليها من خلال وصف حالين مختلفين ، يطلب الشاعر من خلالهما من الإنسان
المنعم أن يعيش حال الشعب الفلسطيني لحظة في خياله و يفكّر فيه علَّه يقف بجانبه و
يقدم واجب الأخوة الإنسانية و العربية و الدينية .
بناء على تلك الثنائيات يمكن تقسيم ألفاظ القصيدة إلى حقلين بناء على
دلالات الألفاظ لا على معانيها المعجمية و هما حقل الوطن و التنعم بخيره ، و حقل التشرد وسلب الوطن ، وذلك على النحو الآتي :
١- حقل الوطن و التنعم بخيره : و تندرج تحته الألفاظ التالية ( أنت ، فطورك ،
حروبك ، فاتورة الماء ، البيت ، تنام ، تحصي الكواكب ، الاستعارات ، نفسك ، شمعة)
.
٢- حقل التشرّد و سلب الوطن : و تندرج تحته الألفاظ الآتية : ( غيرك ، قوت
الحمام ، يطلبون السلام ، يرضعون الغمام ، شعب الخيام ، حيزًا للمنام ، فقدوا حقهم
في الكلام ، الآخرين ، الظلام ) .
يعبّر الحقل الأول عن الوطن و الحياة و النعم و الخيرات التي ينعم بها
العالم حول فلسطين الجريحة المقاومة التي تدافع وحدها عن نفسها في ظل من يستغل
قضيتها ، فكلمة (أنت) هي الكلمة التي تدور حولها القصيدة هي المنعمة المخاطبة
القاسية المتجاهلة للقضية الفلسطينية ، و كلمة( فطورك) تدل على الأمن و الأمان إذ
يستيقظ الإنسان بسلام يعد فطوره، بينما يستيقظ غيره على أصوات إطلاق النار
والمدافع و يبقى تحت تهديد الموت من أول يومه ، و كلمة فاتورة الماء تعبر عن
الحياة الآمنة و المبهجة التي يدفعون ثمنها من خيرات بلادهم التي يخافون عليها،
أما البيت فهو الوطن الآمن و هو أكثر مكان آمن بالنسبة للإنسان ، فيه يعيش و يتنعم
دون سيطرة أو تسلّط بل ينعم بالأمان والراحة والاستقرار ، ويعبر( النوم) عن
الاستقرار و الاطمئنان و الراحة و السلام أثناء عد النجوم و التأمل و التفكير
بالأحلام والآمال المختلفة ، و تعبر كلمة( الاستعارات )عن الحرية الزائدة في
التعبير إذ يحظى الإنسان بنوع من الرفاهية ، فيعبر براحة فيبدع في أساليب الكلام
المؤثرة واستخدام الكلمات على عكس من يخاف التعبير تحت تهديد الاعتقال ، و تدل
كلمة( شمعة) على بذل الجهد في مساعدة الغير بدل لوم الأعداء فقط ، و هذه المساعدة
تكون غالبًا عند من ينعم بالخير و الاستقرار و ليس المضطرب الذي بالكاد يساعد نفسه
.
أمّا الحقل الثاني فيعبر عن نتائج سلب الوطن،
والتهجير، والتشرد، وعيش ويلات الحروب ، والتسلط، والزعزعة، وعدم الأمان،
والاستقرار الذي يعيشه الشعب الفلسطيني المناضل ، وحوله دول شقيقة كثيرة تتنعم
بخيراتها ولا تساعد بالفعل أوالكلمة أو القلم أو
التعاطف أو دعم القضية ، فكلٌ مطلوب منه أن يساعد بطريقته ومنبره ، فكلمة (غيرك ) تعبر
عن الشعب الفلسطيني المقهور الذي يعيش ظروفًا تختلف عن تلك التي يعيشها أغلب الناس
، و كلمة (قوت الحمام) تدل على الاحتياج إلى أبسط الحقوق وهو ما يسدّ الرمق من
الطعام .
أمّا( الحمام) فيدل على الاغتراب ، فهذا الحمام
تقطعت أسرابه بحثًا عن البقاء، (تطلب السلام )معبرة عن السلام ، لأنها في الواقع
هي السلام فهذا أكثر ما تفقده في وطنها ، و تدل كلمة( يرضعون الغمام ) على
افتقادهم للحياة والبهجة والأمان فحقّهم من الحياة قليل كحق الأطفال الرضّع الذين
لم يأخذوا منها شيئًا بعد فهم يرضعون الحياة شيئًا فشيئًا حتى يكبروا ، وهذا هو
حال الفلسطينيين الذين لم يحصلوا على أقل حظهم منها ، وتشير عبارة (حيزًا للمنام )
بعبارة واضحة إلى الضياع والتشرد والغياب عن الوطن الذي سكنه الآباء والأجداد ،
فهم شعب الخيام الصامدون والبعيدون عن أوطانهم ، وتشير كلمة (الظلام ) إلى
معاناتهم وحالهم الصعب الذي يحتاج إلى ضوء ينيره .
v الصورة الشعرية :
تعدّ الصورة الشعرية ميزة أساسية وركيزة مهمة يرتكز عليها الشعر، و بها
تتجلى قدرة الشاعر و براعته في تصوير مراده والتأثير في وجدان المتلقي، وهي تعتمد اعتمادًا
أساسيًّا على الخيال الذي يخلق الصورة فقوة الخيال و خصوبته عند الشاعر يحددان شكل
الصورة و مدى تأديتها وظيفتها الفنية ، فالصورة تعبر عن التجربة الشعورية التي
بدورها تحدث أثرًا عميقًا فهي " الجوهر الدائم و الثابت في الشعر " ([16]).
وقصيدة " فكر بغيرك "
مليئة بالصور الشعرية المميزة على أنواعها وهي في أغلبها صور مشهدية
واقعية، لأن وجه التأثير في هذه الصور يكمن في تصوير الواقع ، " فالصورة
الشعرية بشكل عام تنتمي إلى عالم الشعور أكثر من انتمائها إلى عالم الواقع، لأن
الشاعر يجدد فيها، فقيمة الصورة لا تبدو في قدرتها على عقد التماثل بين الأشياء
وإيجاد الصلات المنطقية بينها ، إنما قدرتها في الكشف عن العالم النفسي للشاعر
والمزج بين عاطفته و الطبيعة " ( [17]
)، وبذلك عبّرت هذه القصيدة في صورها عن
عالم النفس و الواقع معًا من من خلال التعبير عن النفس
وآلامها و آمالها من خلال الواقع الذي تعيشه ، فيصوّر الشاعر هذا الواقع الفلسطيني
ناقلًا تجربته الشعورية و تجربة شعب بأكمله للتأثير في النفوس و الوجدان و إحداث
التغيير وإيقاظ الإنسانية .
يمكن القول إنّ هذه القصيدة تنقسم إلى
سبع صور مركّبة تدل في جوهرها على تقريب بين حالتين و ثنائيتين متضادتين تقوم
عليهما كل محاور القصيدة ، وقد توزعت على النحو الآتي :
"
و أنت تعد فطورك فكّر بغيرك ،
لا تنس قوت الحمام "
هذه الصورة صورة فريدة ففيها يشخص
الشاعر مشهدين مختلفين يعبر فيهما عن أول
ما يقوم به الإنسان في بداية يومه ، ففئة من الناس تستيقظ بأمن و سلام وتحضر
فطورها استعدادًا لمهام يومها ، و فئة تستيقظ على التهديد و أصوات الحرب والدمار ،
و إمكانية التشرد أو التهجير أو حتى القتل في أي وقت ، ليكون تناول الطعام في
الصباح همًّا ثانويًا فهم لا يشعرون بالأمن إضافة إلى عدم توفر الطعام نتيجة سلب
خبرات بلادهم ، فهم كالحمام رموز للسلام لأنهم يطلبون السلام فهم في أمسّ الحاجة
إليه ، و هم مهاجرون مغتربون لا يعرفون الاستقرار في مكان ، فهذه الصورة الأولى هي
صورة يطلب الشاعر فيها من الآخرين أن يتصوروها و أن يحسّوا بها و يشعروا بحال
الفلسطينيين .
أمّا الصورة الثانية فيصور فيها حالة في منتهى الأنانية وهي حال من يخوض
الحروب و الصراعات لكسب مزيد من خيرات الدنيا ، و الدخول في صراعات لا داعي لها
دون توفير هذا الجهد لمساعدة من يطلبون السلام ومن يرجونه من الدنيا ، كما يشير
إلى انشغال الدول العربية بالصراعات فيما بينها لكسب المصالح متناسين الخوف و
القلق و القتل و التهجير في بلد الأقصى ، فهذه الصورة هي مشهد صعب قاس يؤثر في كل
إنسان لديه شيء من الإنسانية .
" وأنت تسدّد فاتورة الماء ،
فكّر بغيرك ، من يرضعون الغمام " ،
هذه صورة تعبر عن الحياة فكأن الشعوب الأنانية تشرب الماء و تأخذ الحياة و تعيشها
وتدفع فاتورها بعدم إنسانيتها و نسيانها قضية
الفلسطينيين ، الذين يرضعون هذا الغمام فحظهم من خيراتها قليل كحظ الأطفال الرضع
الذين لم يأخذوا منها شيئًا ، فهم يرضعون هذا الغمام و هم في حالة ضعيفة يحاولون
أن يتمسكوا بالحياة و المقاومة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا .
" و أنت تعود إلى البيت بيتك ، فكّر بغيرك ، لا تنس شعب الخيام "
، يشير الشاعر في هذه الصورة المشهدية إلى تلك الفئة
التي تعود إلى بيتها ووطنها براحة ، وإلى أؤلئك الذين
فقدوا أوطانهم ولا يستطيعون العودة إليها ، فحتى من بقي في فلسطين غريب عن وطنه
لأنه يعيش حالة من التسلّط و القوّة و الأذى و القتل و التهديد المستمر بالموت أو التهجير
، فوطنهم لم يعد وطنًا حتى لجأوا إلى الخيام الهشة لتحميهم من حر الصيف و برد
الشتاء ولا تستطيع ، فهذه الخيام هي تهجير لهذا الشعب و وطنهم لم يعد آمنًا ، كما
يشبّه الشاعر الفلسطينيين بالخيمة الهشة من الخارج التي أرهقتها ويلات الحروب ،
لكنّها تقوم على عامود قويّ يسندها و يقويها و يثبتها يمثل المبادئ و حب الوطن و
المقاومة و السعي إلى ذلك.
" و أنت تنام و تحصي الكواكب ، فكر بغيرك ، ثمة من لم يجد حيزًا
للمنام"، يصوّر الشاعر حالة من ينعم بالراحة و الاستقرار و ينام دون خوف أو
تهديد مطمئن على نفسه و بيته و وطنه ، يمعن النظر في السماء و يعد نجومها و يحلم و
يتأمل ويفكّر و يعيش حالة من الراحة ، و يصوّر حالة أخرى تختلف عن تلك لم تمتلك
حتى رفاهية النوم فهي بالكاد تجد مكانًا تنام فيه ، إذ يشير هذا الحيّز إلى الخيام
و الدول التي لجأوا إليها فهم لا يشعرون بالراحة ، فلا راحة لهم إلا في وطنهم و لو
سكنوا القصور خارجه فأرض الوطن راحتهم و ما يعنيهم ، و تشير كلمة حيّز إلى أن
الأحوال ضاقت بهم من جميع النواحي ، كما أن الوسع و الرحب لا يكون إلا في بلادهم .
"
و أنت تحرر نفسك بالاستعارات ، فكّر بغيرك ، من فقدوا حقهم في الكلام "، إنّ هذه الصورة مختلفة عن الصور السّابقة ،
فالصور السابقة كان يدعو فيها الشاعر كلَّ إنسان أن يحسَّ بالشعب الفلسطيني بأنَّه
فاقد لأهم أساسيات الحياة ، و قد عبر عن
ذلك من خلال ثنائيات مثّلت حالين مختلفين هما الرفاهية و البؤس في محاولة لإيقاظ الوجدان
و الإنسانية ، أما في هذه الصورة فهو يدعو دعوة تختلف قليلًا إذ يحاول أن يحث كل
إنسان على المشاركة في هذه القضية و ليس فقط الإحساس بها ، فهو يدعو إلى إحداث دور
مؤثر إذ يطلب ممن لديه الحرية و الرفاهية في التعبير يعبّر كيفما شاء، وعن كل ما
يشاء براحة لأنَّه يعيش استقرارًا في بلده ، و يصور الفلسطينيين الذين فقدوا الحق
في الكلام لتعرّضهم المستمر لتهديد الاعتقالات السياسية و تكميم الأفواه و القتل ،
فهم يعيشون قضية إنسانية و مناضلة عظيمة و يحرمون من التعبير عن ذلك ، و فقدان هذا
الحق يعبر أيضًا عمّن فُقدوا تاركين وراءهم قصصًا وتضحيات و مآسي لم يتكلموا عنها
، و هذا بالفعل حال الشعب الفلسطيني .
"
و أنت تفكر بالآخرين ، فكّر بنفسك ، قل : ليتني شمعة في الظلام " ، يحث الشاعر للمرة الأولى منذ البداية على
التفكير بالنفس ، ذلك لأنه يفترض أن تكون هذه النفس ذات تأثير قوي و دور فاعل
لإحداث التغيير و هو ما أراده الشاعر منذ البداية إذ كان هدفه إيقاظ الوجدان و
إحياء الإنسانية المفقودة ، و قد وظف المثل "بدلًا من أن تلعن الظلام أضئ
شمعة " أفضل توظيف للتعبير عن فكرته ، فعندما يضيء كل إنسان شمعة و إن كان
نورها قليلًا سيرتفع الظلام فهو هنا يدعو إلى توحد العرب لأن التوحد هو من سيغير
واقع الفلسطينيين و يزيل عنهم ما هم فيه من ضياع وقتل وتشريد ، لذا هذه دعوة من
الشاعر لكل إنسان أن يتحرّك و يبادر و يساعد في القضية الفلسطينية ، وفي قوله
ليتني دلالة على الصحوة الإنسانية فعندما يدرك الإنسان تقصيره الإنساني في حق
الفلسطينيين سيتمنّى أن يكون لهم سندًا و عونًا ، وهنا بالفعل قام الشاعر بدوره من
خلال قلمه الذي خدم به فلسطين كثيرًا و حث الآخرين على خدمتها.
v
دلالة التكرار:
يعد التكرار واحدًا من أهم الظواهر الأسلوبية في الشعر العربي خاصة
المعاصر، و هو سمة أسلوبية أدبية فهو يدعم الإيقاعية و يكثّف الدلالة ، و يعرّفه
علي عمران بأنه "ظاهرة
لغوية و وسيلة بلاغية ذات قيم أسلوبية مختلفة "( [18])،
والتكرار عند الشعراء ليس عشوائيًا بل يخدم النصّ و يؤدي وظيفته الدلالية لأنه
يخرج من دوافع نفسيّة و فنيّة ، فهو "كسائر الأساليب في كونه يحتاج إلى أن يجيء في
مكانه من القصيدة و أن تلمسه يد الشاعر تلك اللمسة السحرية التي تبعث الحياة في
الكلمات([19]).
كان التكرار في قصيدة "فكر بغيرك "ظاهرة أسلوبية واضحة و متكررة ، عبّر من خلالها
عن حالته الشعورية خاصّة تكرار الكلمات الذي جاء بشكل منسجم ومتوافق إيقاعيًا و
دلاليًا ، و قد تمثل هذا التكرار بتكرار عبارة ( فكّر بغيرك ) و ( أنت) بشكل منتظم
و متتابع في القصيدة ، نقل رسالة الشاعر و تجربته بنوع من الإلحاح على قضية
إنسانية أرهقت الشعب الفلسطيني .
كرّر الشاعر العنوان فكر بغيرك عند كل
قضية ذكرها فقد قال فكر بغيرك عندما تستيقظ آمنًا ويتوفر لك الطعام وفكّر بغيرك
عندما تنشغل بحروبك و عندما تعيش حياة هانئة و عندما تنام و يكون لك وطن و بيت
تعود إليه و عندما تكون لك حرية الكلام ، فالشاعر بإلحاحه على تكرار هذه العبارة
إضافة إلى كلمة أنت هو في الحقيقة إلحاح منه على القضية الكبرى وهي الدعوة إلى
الوقوف بجانب فلسطين والدفاع عنها و إحياء الإنسانية في النفوس فهو يطرق باب
الإنسانية باستمرار متأملًا إحداث تغيير ، و قد دعا إلى هذا التكرار دوافع فنية و
نفسية تمثلت من خلال الإيقاع الذي تمثل من خلال التكرار المنتظم، والإلحاح على الوجدان و محاولة جذب القارئ لتلك
القضية و التأثير في نفسه، فالتكرار كما تقول نازك الملائكة : "إلحاح على جهة
هامة في عبارة الشاعر أكثر بالعناية بغيرها ….فالتكرار يسلط الضوء على نقطة حساسة
في العبارة و يكشف عن اهتمام المتكلم بها "( [20])
، والقضية الفلسطينية هي القضية الحساسة و الأكثر أهمية عند الشاعر و جاء التكرار
للتركيز على ثنائية النفس و الغير ( أنت ، فكّر بغيرك ) التي كانت تشغله، فهو يوثر
في النفس لمساعدة الغير. فللتكرار قيمة جمالية وهي ثيمة
مهمة في بناء النص وتحقيق مبتغاه في نقل العدوى إلى المتلقي ليتقمص دور المقهورين
والمشردين الذين يستمطرون السماء ويلتحفونها.
الخاتمة:
حاولت
الباحثة في هذا البحث استثمار آليات المنهج الأسلوبي في دراسة النصّ الشعري، من
خلال دراسة قصيدة " فكّر بغيرك " لمحمود درويش للوقوف على أهم القِيم
الجماليّة التي تميّزت بها القصيدة .
ومن
خلال ما سبق يمكن استخلاص النتائج الآتية :
1. تعدّ الأسلوبيّة مجالًا مركزيًّا في نقد
الأدب اعتمادًا على بنيته اللغويّة، لأنها تعنى بدراسة النصّ ووصف طريقة الصياغة
والتعبير.
2. تظهر أهمية التحليل الأسلوبي في أنّه يكشف
المدلولات الجماليّة في النص، وذلك عن طريق الدخول في مضمونه وتجزئة عناصره.
3. استخدم حقولأ
دلالية متنوعة تدل على حال الشعب الفلسطيني ومعاناته.
4. غلبت على القصيدة الصور الشعرية كونها صورًا مشهديّة لأنها تصف الواقع وتحاول التأثير في الوجدان .
5. مثّل التكرار ظاهرة بارزة عند محمود درويش في
قصيدته " فكّر بغيرك " وحضر لتقوية فكرة حث عليها الشاعر في قصيدته من
البداية إلى النهاية، علاوة على أنها ظاهرة لغوية تعتمد على العلاقات التركيبية
بين الجمل والكلمات.
وخلاصة القول : إنّ
محمود درويش استطاع تصوير مرارة الحزن والألم عنده من خلال قصيدته بأسلوب مميّز.
والأمل كلّه باللّه أن يكون البحث قد ألمّ بالجوانب الفنيّة الخاصة في المستوى
الدلالي تلك التي أسهمت في سبك عناصر القصيدة وتحقيق تماسكها.
المصادر والمراجع
المصادر
:
1. درويش ،
محمود، " كزهر اللوز أو أبعد "،
رياض الريّس للكتب والنشر، بيروت، ط1، 2005م.
المراجع العربية:
1.
جابر، يوسف حامد، تحليل الخطاب الشعري بين النظرية والتطبيق، النادي الأدبي
الثقافي، السعودية،ط1،
1999.
2.جيرو، بيار، علم الدلالة، ترجمة منذر عيّاشي،
دار الأطلس، دمشق، ط1، 1988
3.الخير، هاني ، محمود درويش ، رحلة عمر في دروب
الشعر موسوعة أعالم الشعر العربي الحديث ، دار مؤسسة أرسلان للطباعة و النشر ،2007م.
4. دحبور ، أحمد ، مقال محمود درويش في الستين_
الشاعر والشأن العظيم، الحياة الجديدة،عدد9.
5. درويش، محمود، شيء
عن الوطن، بيروت، دار العودة، ط1، 1971.
6.ربابعة، موسى سامح، الأسلوبية مفاهيمها
وتجلّياتها، دار الكندي، الكويت، ط1، 2003.
7.الرمّاني، إبراهيم،
مدخل إلى الأسلوبيّة، مجلة آمال ( مجلّة أدبيّة ثقافيّة عن وزارة الثقافة
العربيّة)، العدد61، 1985.
8.شفيع السيّد، الاتجاه الإنساني في الشعر العربي
المُعاصر، دار الآفاق الجديد، بيروت ، ط1، 1881م.
9.عصفور، جابر، الصورة الفنية في التراث النقدي
والبلاغي عند العرب، المركز الثقافي العربي، بيروت،ط3،
1998.
10.العلاق، علي جعفر، شعرية الراوي: متاهة الأعراب
نموذجًا، مجلة الدراسات اليمنيّة، صنعاء،عدد48، 1998م
11. عمر، أحمد مختار،علم
الدلالة، منشورات عالم الكتب، مصر، ط3، 1994
12.عمران، علي، شعرية اللغة، مقاربة أسلوبية في
مدونة حيث بن الضحاك، دار نينوى، سوريا،د.ط،2010.
13.عياد، محمود، الأسلوبية الحديثة ( محاولة
تعريف)، مجلة فصول، عدد2، 1981.
14.الفارابي، إحصاء العلوم، تح: عثمان أمين، دار
الفكر العربي، القاهرة، ط2، 1949م.
15.فاعور، ياسين أحمد، الثورة في شعر محمود
درويش، دار الطباعة للنشر، تونس، 1989.
16.قسطوس،
بسّام، المدخل إلى مناهج النقد المُعاصر،
دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر والتوزيع،2006.
17.الملائكة، نازك، قضايا الشعر المعاصر، دار
العلم للملايين، ط11، بيروت،2000.
18.ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين، لسان العرب،الطبعة الأميرية، بولاق، القاهرة،ج1، 1300ه
19.هيمة، عبد الحميد، الصورة الفنيّة في الخطاب
الشعري الجزائري، هومة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر،د.ط.2005..
المراجع العربية الإنجليزية
1.
Darwish, M., "Like the
Almond Blossoms or Further" (In Arabic), Riyad Al-Rayyes Books and Publishing,
Beirut, 1st edition, 2005. Arabic References:
2.
Jaber, Y. H.,
"Analysis of Poetic Discourse between Theory and Application" (In
Arabic), Al-Nadi Al-Adabi
Al-Thaqafi, Saudi Arabia, 1st edition, 1999.
3.
Giro, P.,
"Semiotics" (In Arabic), translated by Munther Ayyashi, Dar Al-Atlas,
Damascus, 1st edition, 1988.
4.
Al-Khair, H., "Mahmoud
Darwish: A Life Journey in the Paths of Poetry" (In Arabic), Encyclopedia
of Modern Arabic Poetry, Dar Moassasat Arslan for Printing and Publishing, 2007.
5.
Dahbour, A., "Mahmoud
Darwish's Article in the Sixties: The Poet and the Great Issue" (In
Arabic), Al-Hayat Al-Jadida, Issue 9.
6.
Darwish, M.,
"Something About the Homeland" (In Arabic), Beirut, Dar Al-Awda, 1st edition, 1971.
7.
Rababah, M. S.,
"Stylistics: Concepts and Manifestations" (In Arabic), Dar Al-Kendi,
Kuwait, 1st edition, 2003.
8.
Al-Rammani,
I., "An Introduction to Stylistics" (In Arabic), Amal Magazine
(Cultural Literary Magazine by the Arab Ministry of Culture), Issue 61, 1985.
9.
Shafei Al-Sayyed, "The
Humanistic Approach in Contemporary Arabic Poetry" (In Arabic), Dar Al-Afaq Al-Jadid, Beirut, 1st
edition, 1881.
10.
Asfour, J., "The
Artistic Image in the Critical and Rhetorical Heritage of the Arabs" (In
Arabic), Arab Cultural Center, Beirut, 3rd edition, 1998.
11.
Al-Alaq,
A. J., "The Narrator's Poetics: The Maze of the Bedouins as a Model"
(In Arabic), Al-Dirasat Al-Yamaniyya
Journal, Sana'a, Issue 48, 1998.
12.
Omar, A. M.,
"Semiotics" (In Arabic), Alam Al-Kutub Publications, Egypt, 3rd edition, 1994.
13.
Imran, A., "The
Poetics of Language: An Approach in the Style of Haytham
bin Adhak's Diary" (In Arabic), Dar Ninawa,
Syria, n.d.
14.
Ayad, M., "Modern
Stylistics (An Attempt at Definition)" (In Arabic), Fosoul
Magazine, Issue 2, 1981.
15.
Al-Farabi,
"Enumeration of Sciences" (In Arabic), Edited by Othman Amin, Dar
Al-Fikr Al-Arabi, Cairo, 2nd edition, 1949.
16.
Faour, Y. A., "The
Revolution in Mahmoud Darwish's Poetry" (In Arabic), Dar Al-Taba'a lil-Nashr, Tunisia, 1989.
17.
Qustus, B.,
"An Introduction to Contemporary Criticism Methods" (In Arabic), Dar
Al-Wafa' for Printing, Publishing, and Distribution, 2006.
18.
Al-Mala'ika,
N., "Issues of Contemporary Poetry" (In Arabic), Dar Al-Alam lil-Malayin, 11th edition,
Beirut, 2000.
19.
Ibn Manzur, A. F. J.,
"Lisan Al-Arab" (In Arabic), Amiri Edition,
Bulaq, Cairo, Vol. 1, 1300 AH.
20.
Hima, A. H., "The
Artistic Image in Algerian Poetic Discourse" (In Arabic), Huma for
Printing, Publishing, and Distribution, Algeria, n.d.
2. هاني الخير ، محمود درويش ، رحلة عمر في دروب الشعر موسوعة عالم
الشعر العربي الحديث ، دار مؤسسة أرسلان للطباعة و النشر ،2007م، ص8.
5. انظر : ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين، لسان
العرب،الطبعة الأميرية، بولاق، القاهرة،ج1، 1300ه، ص456
6. الرمّاني،
إبراهيم، مدخل إلى الأسلوبيّة، مجلة آمال ( مجلّة أدبيّة ثقافيّة عن وزارة الثقافة
العربيّة)، العدد61، 1985،ص41.
8.
قسطوس، بسّام، المدخل إلى مناهج النقد
المُعاصر، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر والتوزيع،2006، ص19.
13. العلاق،
علي جعفر، شعرية الراوي: متاهة الأعراب نموذجًا، مجلة الدراسات اليمنيّة،
صنعاء،عدد48، 1998م،ص106.
14. جابر، يوسف حامد، تحليل الخطاب الشعري بين
النظرية والتطبيق، النادي الأدبي الثقافي، السعودية، ط1، 1999،ص124
16. عصفور، جابر، الصورة الفنية في التراث
النقدي والبلاغي عند العرب، المركز الثقافي العربي، بيروت،ط3، 1998،ص8
17. هيمة، عبد
الحميد، الصورة الفنيّة في الخطاب الشعري الجزائري، هومة للطباعة والنشر والتوزيع،
الجزائر، د.ط .2005، ص59..