تاريخ الإرسال (23-04-2021)، تاريخ قبول النشر (09-06-2021)

 

الانزياح في المقامة البغدادية

The shift in the Baghdad shrine

1 اسم الجامعة والبلد (للأول)

 

 

 

* البريد الالكتروني للباحث المرسل:

 

       E-mail address:

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قسم اللغة العربية وآدابها/ كلية الدراسات العليا/ الجامعة الهاشمية/الأردن Department of Arabic Language and Literature/College of Graduate Studies/The Hashemite University/Jordan

 

Halaalskafy1998@gmail.com

 

اسم الباحث الأول:                                                                                 

 

حلى بلال حسن السكافي Hala Bilal Hassan Al-Sakafi

 

 

 

 

 

 

 

 



جسم البحث:

         تعدّ المقامة فنًا نثريًا فيه مقوّمات القصّة القصيرة، تعكس الحالة الاجتماعية والسياسية والفكرية والأدبية في العصر العبّاسي، وتتّسم بالواقعيّة والثراء اللغوي، وتتحدّث بشكل عام عن التسوّل والكدية والحيلة في الحصول على المال، وكان عنوان المقامة المدروسة في هذا التقرير: ( المقامة البغدادية) فهنا إشارة إلى الوضع في بغداد الذي تسبّب بسبب الفقر إلى الحيلة والتسوّل. فهي تعكس طبيعة الحياة في القرن الرابع الهجري الذي كان مليئًا بالاضطرابات السياسيّة والمذهبيّة، ممّا أدّى إلى حدوث فقر شديد انتشرت بسببه الحِيَل في كسب المال.

           وفي هذا التقرير ترغب الباحثة بدراسة هذه المقامة دراسةً أسلوبيّة مركّزة على الانزياح الذي ظهر بنوعيه الدلالي والتركيبي في هذه المقامة ، ويظهر في تحليلها إيراد الجمل و الكلمات التي برز فيها عنصر الانزياح جليًّا واضحًا.

    _  الانزياحات الدلاليّة والتركيبية في المقامة البغدادية :

          تعد الانزياحات في مقامة الهمذاني تعبيرًا عن غير المألوف داخل المألوف بنوعيها التركيبي والدلالي في ثنائية يعبّر من خلالها عن ظاهرة اجتماعية مألوفة وظواهر إنسانية وسياسية تطرق إليها خلف النص ، وظهر ذلك جليًا في عنوان المقامة ( المقامة البغدادية) الذي كان له دلالة، إذ يشير العنوان إلى مكان حصول أحداث المقامة ويعبّر عن حال بغداد التي كثر فيها التسول والاحتيال لانتشار الفقر فيها نتيجة ضعف الحكام، إذ سيطر عليها الفرس والأتراك حتى أصبح حكمهم شكليًا فقط، كما يشير إلى سبب وصول بغداد إلى هذه الحالة بتصويرها ضحية أعدائها الذين سرقوا خيراتها من حكّامها الضعاف السُذَّج فقد رمز البطل عيسى بن هشام إلى الترك والفرس، أمّا شخصية السوادي فقد مثلتها بغداد بسذاجة وطمع حكامها، فالمقامة هنا نقد وتصوير لظاهرة اجتماعية وسياسية أوصلت بغداد لما هي عليه، وبعدُ ابتدأ مقامته باشتهاء البطل الراوي عيسى بن هشام للتمر الذي كان قديمًا أوّل خيار لسد الجوع عند الفقراء مشيرًا إلى وجود هذا الفقر في بغداد من خلال جملة اسمية أثبت الحدث من خلالها حتى صار حقيقة مؤسفة فبغداد هي التي استُغلّت مواردها وعمّها الفقر حتى أصبحت مثل السواديّ الساذج لسذاجة وضعف حكّامها، فظاهرة الاحتيال والاستغلال لم تكن اجتماعية فقط بل هي سياسية متجذرة في بغداد و كانت السبب في فسادها حتى تجسّد هذا الاحتيال في مجتمعها.

          يعد استخدام الحال على شكل جملة فعلية انزياحًا هامًّا ( فخرجت انتهز) يعبر عن حدث الحاضر الذي بدأ به، و دلالة على حركته السريعة في محاولة سد ّجوعه، فهذه السرعة سرعة في محاولة تغيير الواقع الذي قد تتخذ لأجله طرق غير سويّة، إنّ الانتقال بعد هذه السرعة والرغبة الشديدة إلى إذا الفجائية ( فإذا أنا بسواديّ) يعد أسرع للحال وانزياحًا في التركيب الذي بدوره كان انزياحًا قويًا في الأحداث و طريقًا سريعًا للوصول إلى المراد، وحذف خبر أنا في الجملة نفسها وتقديره ( أمرُّ ) والانتقال السريع إلى ذكر الفريسة هو في الواقع حذف للجهد الذي سيبذله وانتقال أفضل وأسرع إلى الغرض المطلوب وهو الحصول على الطعام أي الحصول على الحاجة الرئيسة في ظل ظروف بغداد وهو حصول على الحياة.

       ( ظفرنا والله بصيد و حياك الله أبا زيد ) يشير هذا الجزء إلى معرفة البطل بسذاجة السواديّ وتحققه من قدرته على صيد فريسته، عبّر عنها من خلال انزياح لغويّ تمثّل باستخدام الفعل الماضي لحدث مستقبليّ، وتقديم شبه الجملة ( والله ) على (بصيد ) التي هي في مقام المفعول به للفعل ظفر الذي يعدّى بحرف الجر، وهذا تأكيد وتحقق من وقوع الضحية والانتقال السريع للبدء بالحيلة من خلال حرف العطف الواو والبدء بالتحية والمناداة بالكنية،  هذا التنوع اللغوي الكثيف لايعدّ نقدًا لظاهرة اجتماعية فقط بل يعدّ أيضًا نقدًا لحال بغداد في تلك الفترة إذ دخلها الفرس والأتراك لسذاجة حكامها وتحسرهم عليها، فالانزياح اللغوي هنا يعبر عن انزياح دلالي خرج عن المألوف في موضوع المقامة وهو نقد حال بغداد.

        نوّع الكاتب في استخدام التراكيب اللغوية في وصف خداع البطل للسواديّ من خلال الاستفهام الذي يعدّ أداة لغوية قويّة لجذب الانتباه وتقمّص شخصية الصديق بطريقة ذكية، فقد نوّع في الاستفهام عن الزمان والمكان كأنه يتسائل عن حال بغداد السّابق في عصرها الذهبي قبل خسارة ثروتها كما خسر السواديّ ثروته في نهاية المقامة.

        بعد تلك الاستفهامات أورد نفيًا واستدراكًا للإثبات (لستُ بأبي زيد ، ولكنّي أبو عبيد ) وهو نفيٌ لحقيقة معرفة البطل للسواديّ وإثبات لعدم معرفته في الوقت نفسه، ومع ذلك خدع السوادي لذكاء البطل فقد استخدم أسلوبًا قويًا وهو الدعاء، فالانزياحات في اللغة هنا كانت انزياحًا عن الحقيقة أيضًا، فضعْف السوادي وسذاجته على الرغم من وضوح هذه الحقيقة الثابتة من خلال الجملة الاسمية وقوة البطل التعبيرية، وهذا دلالة على ضعف الحكام في بغداد وقوّة الحيلة عند الأتراك والفرس في التغلغل لبغداد و محاولة أخذ ثروتها . فمن خلال الدعاء على الشيطان وادّعاء النسيان واستخدام المقابلة للدلالة على الصحبة والبعد في قوله (أنسانيك طول البعد واتصال العهد ) عبّر عن بعد لغوي قويّ يدل على طول مكوث أعداء بغداد فيها وادّعاؤهم الصحبة والقيام بمصالحها من خلال شغلهم مناصب فيها، وفي الحقيقة كانوا بعيدين عن ذلك كل البعد ومن هنا يتحقق التقابل بين الصحبة والبعد.

             و قد استمرّ البطل في محاولة خداعه من خلال أسلوب الاستفهام فقد استفهم عن أبيه وكأنه يسأل عن تاريخ بغداد الذهبي الزاهر وقوتها من خلال قوة حكّامها ليتأكد بعد ذلك من خلال انزياح لغوي قوي في التركيب والدلالة ( قد نبت الربيع على دمنته ) (وأرجو أن يصيره الله إلى جنته )، فالجملة الاسمية تدل على ثبات حقيقة عدم وجود تاريخ قوي لبغداد في الوقت الحالي فهذا التاريخ القوي كان في الماضي، و تعد الكناية تعبيرًا راقيًا لأنها تذكر الدليل فقد مرّ على قبره زمن، وقد استخدم كلمة الرّبيع وأسلوب الرجاء في تمني الجنّة كنوع من الأمل داخل هذه الأحداث المؤسفة وهذا انزياح من المألوف إلى غير المألوف .

           و قوله ( إنا لله و إنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا باللّه ) نوع من التحسّر والاستياء من حال بغداد بعد الأمل في الجمل السّابقة، يمثّل عيسى بن هشام دور الشخصية المحتالة ويمثلها أعداء بغداد فمحاولة عيسى بن هشام تمزيق ثوبه مدّعيًا الحزن على والد السواديّ و منع السواديّ له وتصديقه انزياح دلالي بين قوّة حيلة البطل وضعف وسذاجة السواديّ من خلال جمل فعلية متتالية تعبّر عن هذه الأحداث بين الماضي والحاضر فالتحايل على بغداد كان بإضعافها أولًا .

           بعد التاكد من تهيؤ الضحية للخدعة من خلال إغرائها بأنواع من الطعام و دعوتها لتناوله مؤكدًا على أن سبب وقوع الضحية لم يكن السذاجة فقط بل الطمع أيضًا و هذا حال حكام بغداد الذين طمعوا فيها وانغمسوا في الملذات حتى هان أمرهم أمام مكر أعدائهم ، وقد ورد في هذا الجزء انزياحات دلالية متعددة من خلال صور وصفية للطعام وهي صور فنية تمثلت بالاستعارة والتشبيه ، وهي في الحقيقة وصف لخيرات بغداد التي أخذها أعداؤها بالحيلة والخسّة ، وقد اختار هذه الانزياحات ليعبّر بقوة عن خيرات بغداد، فقد قام الشواء من خلال ساطوره القوي في صورة غريبة يبدو فيها مشهدًا مغريًا للطعام وهو في الحقيقة مشهد مخادع يعبر في باطنه عن البطش والقوة في أخذ تلك الخيرات ، وقد عبّر عن ذلك من خلال انزياح قوي يظهر مقابلة عجيبة في صورة فنية .

          انتقل بعد ذلك إلى وصف الحلوى بانزياحات دلالية من خلال التشبيه (كثيف الحشو ، لؤلؤي الدّهن ، كوكبي اللون ، يذوب كالصمغ ) ، فقد صوّرها بصور بصرية وأخرى حسية وذلك لإغراء السواديّ و التمكّن منه، فدهنها مذهل ولامع كاللؤلؤ متوقد بارق كالكوكب يستفز البصر والشهية و يحرك الطمع والرغبة الشديدة، كل هذه الانزياحات في الصور الفنية تعبر عن انزياح دلالي خفي من خلال تقابل خفي فهذه المظاهر الجذابة الجميلة هي في الحقيقة حيلة وانزياح عن الحقيقة واستمرار في الخداع لأخذ الثروات البغدادية بشيء من الهوان والسخرية إذ يبدو الأمر بتسهيل وموافقة من الضحية .

        في قوله (ما أحوجنا إلى ماء يشعشع بالثلج ) ( ليقمع هذه الصارة و يفثأ هذه اللقم الحارة ) صور فنية وانزياحات دلالية فهذا الماء الذي يشير إلى الحياة ادّعى العدو المحتال أنه سيكسر ويقمع فيه حرارة الطعام وهو في الحقيقة يسرقه ويقمع أهله ويأخذ خيره وهو انزياح عن الحقيقة في الدلالة الخفية و هذا خداع لغوي يعبر عن الخداع الحقيقي .

       الجمل الاستفهامية ( أين ثمن ما أكلت ) ( ومتى دعوناك ) لفتت إلى الخدعة بطريقة قاسية حتى بكى السواديّ ودفع ثمن سذاجته، يشير صاحب المقامة في آخر بيتين إلى فلسفة انتهازية من خلال جمل أمر ونهي تبرر استخدام جميع الوسائل للحصول على الرزق وهذه كانت حيلة أعداء بغداد فقد سرقوا ثرواتها بعد أن كانت مزدهرة قوية .

       و قوله ( كم قلت لذلك القريد أنا أبو عبيد وهو يقول أنت أبو زيد ) في هذا كشف للحقيقة التي ذكرت في البداية ولم يلتفت إليها السواديّ فقد أصرّ عيسى ابن هشام في كل مرّة أن يناديه أبا زيد و لم يلتفت فقد ادّعى عيسى بن هشام صداقته وصداقة أبيه وادّعى تمنيه الخير له وفي الحقيقة كان عدوه يقصد الإضرار به، ولكن السذاجة و الطمع أعمياه عن رؤية الحقيقة التي تكررت أمامه كثير وهذا حال حكام بغداد الذين غرقوا في الملذات حتى تمكن منهم أعداؤهم وسرقوهم بسهولة.

        وخلاصة القول إنّ المقامة ظهر فيها الانزياح ما بين الناحيتين الاجتماعية والسياسيّة فمرّة من ناحية اجتماعية، ومرّة أخرى من ناحية سياسية فالظاهرة الاجتماعية هي ظاهر النص، والسياسية كانت في باطن النص كما أن الظاهرة الاجتماعية التي هي الاحتيال سببها الاحتيال في السياسية لأنه هو الذي تسبب في فقر بغداد وهنا يظهر انزياح في الدلالة العامة من المعنى المألوف الذي هو الظاهرة الاجتماعية إلى المعنى الخفي الذي هو الظاهرة السياسية.

 

 

 

 

 


 

المصادر والمراجع

أولاً: المراجع العربية:

1.     الهمذاني، أبو الفضل بديع الزمان، تح: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الطلائع للنشر والتوزيع، ط1، 2011، ص49_ص51.

 

المراجع العربية الإنجليزية

. Al-Hamdhani, A, edited by: Muhammad Mohiuddin Abd al-Hamid, (in Arabic), Dar Al-Tala’i for Publishing and Distribution, 1st Edition, 2011, pg. 49_p. 51.